رسالة في ليلة التنفيذ

قصيدة "رسالة في ليلة التنفيذ" لهاشم الرفاعي رحمه الله ، هي إحدى القصائد الرائعة التي نحتت في ميدان الأدب الشعري الصادق ، و تتحدث القصيدة عن لحظات انسانية مؤثرة قبل الإعدام ، مليئة بآلام السجن وأحزانه، وذكربات السجين وأشجانه، وتحكي قصة ظلم تهزّ الجبال الراسيات ، وإعدام في لحظة عزّ و إباء وصمود.

تنشر المدونة هذه القصيدة، إحياء لروح التضحية في نفوس الشباب، و إثراء للساحة بروائع الأدب المفيد.

تقول القصيدة :


أبتاه، ماذا قد يخط بناني..والحبل والجلاد منتظران

هذا الكتاب إليك من زنزانة..مقرورة صخرية الجدران

لم تبقَ إلا ليلة أحيا بها..وأحس أن ظلامها أكفاني

ستمر يا أبتاه - لست أشك في..هذا - وتحمل بعدها جثماني


***


الليل من حولي هدوء قاتلوالذكريات تمور في وجداني

ويهدني ألمي، فأنشد راحتي..في بضع آيات من القرآن

والنفس بين جوانحي شفافة..دب الخضوع بها فهز كياني

قد عشت أومن بالإله ولم أذق..إلا أخيرًا لذة الإيمان

شكرًا لهم، أنا لا أريد طعامهم..فليرفعوه، فلست بالجوعان

هذا الطعام المر ما صنعته ليأمي، ولا وضعوه فوق خوان

كلا، ولم يشهده يا أبتي معيأخوان لي جاءاه يستبقان

مدوا إليّ به يدًا مصبوغةبدمي، وهذي غاية الإحسان

والصمت يقطعه رنين سلاسل..عبثت بهن أصابع السجان

ما بين آونة تمر.. وأختها..يرنو إليّ بمقلتي شيطان

من كوة بالباب يرقب صيده..ويعود في أمنٍ إلى الدوران

أنا لا أحس بأي حقد نحوه..ماذا جني؟ فتمسه أضغاني

هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي..لم يبد في ظمأ إلى العدوان

لكنه إن نام عني لحظةذاق العيال مرارة الحرمان

فلربما وهو المروع سحنةلو كان مثلي شاعرًا لرثاني

أو عاد - من يدري؟ - إلى أولاده..يومًا وذكر صورتي لبكاني

وعلى الجدار الصلب نافذة بهامعنى الحياة غليظة القضبان

قد طالما شارفتها متأملاً..في الثائرين على الأسى اليقظان

فأرى وجومًا كالضباب مصورًاما في قلوب الناس من غليان

نفس الشعور لدى الجميع وإن همو..كتموا، وكان الموت في إعلاني

ويدور همس في الجوانح ما الذيبالثورة الحمقاء قد أغراني؟

أولم يكن خيرًا لنفسي أن أرى..مثل الجميع أسير في إذعان؟

ما ضرني لو قد سكت، وكلماغلب الأسى بالغت في الكتمان

هذا دمي سيسيل، يجري مطفئًاما ثار في جنبي من نيران

وفؤادي الموار في نبضاتهسيكف في غده عن الخفقان

والظلم باق، لن يحطم قيدهموتي، ولن يودي به قرباني

ويسير ركب البغي ليس يضيره..شاة إذا اجتثت من القطعان


***


هذا حديث النفس حين تشفت عنبشريتي.. وتمور بعد ثوان

وتقول لي: إن الحياة لغايةأسمى من التصفيق للطغيان

أنفاسك الحرى وإن هي أخمدتستظل تغمر أفقهم بدخان

وقروح جسمك وهو تحت سياطهم..قسمات صبح يتقيه الجاني

دمع السجين هناك في أغلالهودم الشهيد هنا سيلتقيان

حتى إذا ما أفعمت بهما الربالم يبق غير تمرد الفيضان

ومن العواصف ما يكون هبوبهابعد الهدوء وراحة الربان

إن احتدام النار في جوف الثرىأمر يثير حفيظة البركان

وتتابع القطرات ينزل بعدهسيل يليه تدفق الطوفان

فيموج.. يقتلع الطغاة مزمجرًا..أقوى من الجبروت والسلطان

أنا لست أدري، هل ستُذكر قصتيأم سوف يعروها دجى النسيان؟

أم أنني سأكون في تاريخنامتآمرًا أم هادم الأوثان؟

كل الذي أدريه أن تجرعيكأس المذلة ليس في إمكاني

لو لم أكن في ثورتي متطلبًاغير الضياء لأمتي لكفاني

أهوى الحياة كريمة.. لا قيد.. لا..إرهاب.. لا استخفاف بالإنسان

فإذا سقطت سقطت أحمل عزتي..يغلي دم الأحرار في شرياني


***


أبتاه، إن طلع الصباح على الدنىوأضاء نور الشمس كل مكان

واستقبل العصفور بين غصونهيومًا جديدًا مشرق الألوان

وسمعت أنغام التفاؤل ثرة..تجري على فم بائع الألبان

وأتى - يدق كما تعود – بابنا..سيدق باب السجن جلادان

وأكون بعد هنيهة متأرجحًافي الحبل مشدودًا إلى العيدان

ليكن عزاؤك أن هذا الحبل ماصنعته في هذي الربوع يدان

نسجوه في بلد يشع حضارةوتُضاءُ منه مشاعل العرفان

أو هكذا زعموا، وجيء به إلى..بلدي الجريح على يد الأعوان

أنا لا أريدك أن تعيش محطمًافي زحمة الآلام والأشجان

إن ابنك المصفود في أغلاله..قد سيق نحو الموت غير مدان

فاذكر حكايات بأيام الصباقد قلتها لي عن هوى الأوطان

وإذا سمعت نشيج أمي في الدجىتبكي شبابًا ضاع في الريعان

وتكتم الحسرات في أعماقهاألمًا تواريه عن الجيران

فاطلب إليها الصفح عني، إننيلا أبتغي منها سوى الغفران

ما زال في سمعي رنين حديثهاومقالها في رحمة وحنان

أبنيَّ: إني قد غدوت عليلةلم يبق لي جلد على الأحزان

فأذق فؤادي فرحة بالبحث عنبنت الحلال ودعك من عصياني

كانت لها أمنية.. ريانةيا حسن آمال لها وأمان!

غزلت خيوط السعد مخضلا ولميكن انتقاض الغزل في الحسبان

والآن لا أدري بأي جوانحستبيت بعدي أم بأي جنان


***


هذا الذي سطرته لك يا أبيبعض الذي يجري بفكر عان

لكن إذا انتصر الضياء ومزقتبيد الجموع شريعة القرصان

فلسوف يذكرني ويكبر همتيمن كان في بلدي حليف هوان

وإلى لقاء تحت ظل عدالةقدسية الأحكام والميزان
شاركه على جوجل بلس

عن مدونة صنكرافة

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق